أدب و فنون

ذكريات لا تُنسى ( 20 )

..بينما كنت أتجول في أحد الأحياء الشعبية ، أثار انتباهي صندوق بريد مثبت في جدار أحد المنازل، وقد علاه الغبار والصدأ وأكله النسيان ، وظل غريبا يندب حظه…أعادني منظره الى تذكر زمن جميل حين كانت الهيبة للقلم والورق المُسطّر، و كان الناس يجلسون ساعات طوال يدبجون الرسائل، ويسكبون فيها عواطفهم وأشواقهم…لازلت أتذكر تلك اللحظات الجميلة التي كنت ايامها أقف على وجل وشوق وحيرة من أمري خلال تناول وجبة الغذاء ـ “بالقسم الداخلي” في الثانوية ـ أنتظر بكامل الشوق والشغف وصول رسالة من عند صديق أو قريب أو عزيز علي …نعم كنت حينما أتناولها تتملكني فرحة عارمة ممزوجة بارتباك نفسي عميق، فأبدأ في فتح الرسالة بيدين مرتجفتين لا تقويان أحيانا على التركيز الجيد لأنني لم أكن أدرك ما قد يطلعني عليه مضمونها فتسبق إلى ذهني توقعات غريبة تمزج بين الفرح والحزن و بين ما أتمناه وما لا أتمناه…فكلما وجدت في مضمون الخبر ما يفرحني أكون أسعد إنسان في العالم وأطير فرحا ،وكلما كان العكس انتابتني نوبات من الحزن التي تجعل عينيّ تذرفان دموعا ساخنة …كنت أقرأ الرسالة مرارا ، وبدون شعور أحيانا بصوت مسموع ، وبعدها مباشرة أشرع في الاجابة دون أن أصادف صعوبة ما لأنني أحفظ عن ظهر قلب تلك العبارات التي تؤتتها : فبعد البسملة والحمدلة والصلاة على النبي ، أنتقل الى مقدمة عامة تتحدث عن الشوق والتحيات والخير الذي نعيش فيه دون نسيان عبارة “ولا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز”. وبعد سرد آخر ما استجد من أحداث ، وإن كان أغلبها تافها ، أختم ب” أتمنى أن تصلكم رسالتي وأنتم في صحة جيدة “.أحيانا أعمد الى كتابة الأخبار المهمة باللون الاحمر لإشعار الطرف الثاني بأهميتها… كنت أفضل ذلك الظرف الذي كانت أطرافه ملونة بمقاطع صغيرة مائلة من الأزرق والأحمر، ثم أطوي الورقة بعناية وأدسها داخله ،وأبلل غطاءه المثلث الشكل بطرف اللسان ثم ألصقه وأضغط عليه بقبضة اليد. بعدها أنهمك في تخطيط العنوان بخط بارز، مع إلصاق الطابع البريدي في أعلى الجانب الأيمن من الظرف ، أما أسفله فأدون “شكرا لساعي البريد “… كانت للرسائل طقوس جميلة، وكانت تستغرق أياما معدودات لتصل، فيبدأ المرسل بعدها بعدّ الايام ليتلقى الرد؛ على اعتبار ان المتلقي كتب رده وارسله للبريد في ذات اليوم …كنت من هواة المراسلة المكتوبة بخط اليد قبل ظهور هذا التطور التكنولوجي الهائل في الاتصال ، ومن عادتي البحث في الجرائد والمجلات ( العلم ، الاتحاد الاشتراكي ، البيان ، لوبنيون ، مجلة العربي …) على العناوين المنشورة من أجل تبادل التعارف . ومن أجل ذلك قصدت بائع الكتب القديمة ، فاقتنيت الكتيب الخاص بالمراسلات لأقتبس منه مجموعة من العبارات قصد توظيفها كمقدمات… كنت احرص على أن تُكتب رسائلي بكل احترام ، وأن تكون خالية من العبارات الخادشة للحياء… أيام جميلة غابت بدون رجعة كانت تربطني بعدة أشخاص رغم أنني لم ألتقي بهم وجها لوجه على الاطلاق… لازلت أتذكر كذلك انتظار ساعي البريد وخاصة من طرف العجائز اللواتي كن ينتظرن بفارغ الصبر الرسائل التي يبعث بها أبناؤهن العاملون في الحواضر. كنت أتولى قراءتها وترجمتها مقابل أجر زهيد ، يكون في أحايين كثيرة عبارة عن الدعاء بالنجاح …ولعل أحرج الأوقات عندنا كتلاميذ هي فترة النتائج الدراسية التي يتوصل بها أهلنا عبر البريد، وكنا ننتظرها بفارغ الصبر. أما من رسب منا فكانوا يحصلون على هذه الرسائل دون إخبار الأهل ويعمدون الى اتلافها لتمر العطلة بسلام إلى حين العودة إلى الدراسة مجددا..
من المؤسف أن تتلاشى الرسالة المكتوبة ، ويبدأ أفول نجم ساعي البريد ، فلا أحد يشعر الآن بمتعة تلقي رسالة من قريب غائب لأن فكرة الغياب نفسها اندثرت وأي شخص مهما كان بعيدا فهو بمتناول “الهاتف”، وأي شخص تفتقده سرعان ما تجده قابعا في “صندوق الرسائل الواردة”، أو جالساً ينتظرك في حجرة “الايميل” ، أو داخل مجموعة الواتساب …لقد اختفت تلك الأوقات المليئة بالحيوية، تلك الرسائل التي تكتظ مغلفاتها بالعواطف النبيلة، والمشاعر الجياشة ، لتحل محلها الرسائل الاليكتروبية الملغومة …مع الأسف.
أما ضيفة الحلقة لهذا اليوم فهي :
الاسم : كريمة الزعري
تاريخ ومكان الازدياد : 1979 طانطان
الهواية : قراءة القصص
الأمنية : مذيعة
موضوع المشاركة : الابن العادل
كان السلطان عادلا فأراد أن يكون حكام الدولة عادلين مثله ، فتمّ له ما أراد. لأن المثل لم يخطئ حين قال (الناس على دين حكامهم) ! وذات يوم خرج واحد من أعوان السلطان في جولة تفتيش عام على متاجر المدن الكبرى ، ليراقب الموازين ، ويعرف ما إذا كان أصحاب الدكاكين يغشون الناس أو ينصفونهم …طاف المفتش على المتاجر يهنئ هذا ويعاتب ذاك. ، وصل أمام دكان بقال عرف عنه الناس أنه غشاش منافق. بدت على صاحب الدكان امارات الدهشة عندما وقع نظره على المفتش ، ولكنه وقف في مكانه جامدا لا ينطق بكلمة. أمر المفتش جنوده أن يفتشوا على الموازين ويفحصوها ، ولما تبث أنها مزيفة أمر بتقطيعها وحكم عليه بغرامة، لم يرتفع للبقال صوت الشكوى بل كانت الدموع تنهمر من عينيه. انصرف المفتش ولكنه سقط فجأة عن حصانه مغشيا عليه ، أسرع الجنود لا سعافه، احتشد حوله الناس ، وهرع اليه البقا فقبّله قائلا : اغفر لي سامحني….دُهش الناس وتزاحموا يسألونه عن حقيقة الأمر فأجاب : إن هذا المفتش هو ولدي ، وقد أبى الا أن ينزل بي عقابا كي لا يُقال أنه يشفق على أبيه . ولما أفاق من غشيته حملوه على الأعناق مهللين مكبرين .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى