المدرسة العتيقة

تاريخ المدارس العتيقة بالمغرب

المدارس القرآنية أو المدارس العتيقة كما يطلق عليها الآن لعبت دورا كبيرا في ترسيخ قيم الدين الإسلامي السميح في كل ربوع المملكة و بالخصوص في بلاد سوس ، و أفيان تحتضن إحدى هذه المدارس ألا و هي المدرسة العتيقة لسيدي إبراهيم بن عامر   , أتمنى صادقا أن تتضاعف جهود جميع الفعاليات المعنية حتى تستمر هذه المدرسة في القيام بالدور المنوط بها.

في هذا السياق  و تعميما للفائدة أقدم لقراء هذا الموقع مقتطفات من دراسة جامعة و شاملة أنجزها الدكتور جميل حمداوي جزاه الله خيرا

قراءة ممتعة

  ارتبط التعليم المغربي منذ الفتوحات الإسلامية الأولى إلى يومنا هذا بالمدارس العتيقة أو ما يسمى أيضا بالمدارس القرآنية أو التعليم الإسلامي أو التعليم الأصيل. وقد قامت هذه المدارس بتلقين العلوم النقلية كالعلوم الشرعية والعلوم اللغوية والمعارف الأدبية بله عن العلوم العقلية والكونية. وقد ساهمت هذه المدارس في نشر الدين الإسلامي والتعريف به في كل أرجاء المغرب، وساهمت أيضا في توفير الأطر المؤهلة والكفاءات العلمية التي تولت مهمات التدريس والفتيا والإمامة والخطابة والتوثيق والعدالة والقضاء والحسبة وشؤون الإدارة والاستشارة السلطانية. كما تخرج من هذه المدارس العديد من العلماء والمفكرين والمثقفين و الكثير من الجهابذة الموسوعيين المتعمقين في كل فنون المعرفة. وقد اشتهروا في العالم الإسلامي مغربا ومشرقا، بل تخرج منها بعض سلاطين المملكة المغربية ومؤسسو دولها كعبد الله بن ياسين زعيم المرابطين، وأحمد المنصور الذهبي سلطان الدولة السعدية.

زد على ذلك أن علماء هذه المدارس وطلبتها قد شاركوا في الجهاد ومقاومة العدو الأجنبي بكل بسالة واستماتة. وشمروا عن سواعدهم لتهذيب نفوس الناشئة المغربية وتطهيرها من الشك والإلحاد وبراثن الشر والضلالة عبر تأسيس مجموعة من الروابط والزوايا كالزاوية الناصرية والزاوية الشرقاوية على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر والتقييد. وعمل هؤلاء العلماء كذلك على تعليم الصبيان والبنات والتلاميذ من خلال تأسيس الكتاتيب القرآنية والمساجد والمدارس والمعاهد لتلقين هؤلاء المتعلمين مبادئ الشريعة الإسلامية وقواعد اللغة العربية وإقرار الدراسات الإسلامية للحفاظ على العقيدة المحمدية وحماية اللغة العربية من العاميات واللهجات المحلية، كما ساهم هؤلاء العلماء في الحفاظ على المذهب المالكي وتمثل التصوف السني والدفاع عن الفكر الأشعري والحث على احترام مواثيق البيعة السلطانية.

ومن هنا، فقد قامت المدارس العتيقة بأدوار ووظائف عدة كالدور التربوي – التعليمي، والدور الوطني، والدور القومي، والدور الأخلاقي، والدور التأطيري التنموي. ومازالت هذه المدارس العتيقة تقوم بأدوارها المعهودة إلى يومنا هذا، بل زادت الحاجة إلى هذا النوع من المدارس بعد تراجع مستوى الطلبة في مجال العلوم الشرعية والأبحاث الدينية وخاصة في ما يخص المواريث والتفسير وفهم مقاصد الحديث النبوي وتقعيد الفقه وأصوله….

لذا سارعت الدولة المغربية في عهدي الملكين: الحسن الثاني ومحمد السادس إلى تأسيس دار الحديث الحسنية بالرباط، وتأسيس كليتي الشريعة بفاس وأكادير وكلية أصول الدين بتطوان، والعناية بالجوامع الإسلامية المعروفة كجامع القرويين بفاس، وجامع ابن يوسف بمراكش مع الترخيص للعديد من المعاهد والكتاتيب القرآنية بأداء وظيفتها التربوية والتعليمية طبقا للظهير الشريف 13. 01 الصادر في 29 يناير2002م.

إذا، ما المقصود بالمدارس العتيقة؟ وماهي الكتابات التي رصدت هذه المدارس بالدرس والتأريخ والفحص والتمحيص؟ ومتى ظهرت هذه المدارس؟ وماهي المراحل التاريخية التي مرت منها؟ وماهي أدوارها ووظائفها؟ وكيف تم تنظيم هذه المدارس؟ وماهي محتوياتها وبرامجها ومناهجها التربوية؟ وماهي الانتقادات الموجهة إلى هذا النوع من المدارس؟ وماهي سبل الإصلاح والتطوير لإخراج هذه المؤسسات الدينية من ركودها وجمودها وانغلاقها وحل مشاكلها الآنية؟

هذه هي مجمل الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في كتابنا المتواضع هذا.

 

  مفهوم المدارس العتيقة

 يقصد بالمدارس العتيقة تلك المدارس الدينية التقليدية الأصيلة التي انتشرت في المغرب الأقصى منذ الفتوحات الإسلامية. وهي تمتاز بأصالة التعليم وتلقين العلوم الشرعية وشرح مبادئ العقيدة الربانية. لذلك، تسمى هذه المدارس أيضا بمدارس الدين الإسلامي، أو مدارس التعليم الأصيل، أو مدارس التعليم التقليدي، أو التعليم القديم، أو المدارس الدينية، أو المدارس القرآنية، أو المدارس الشرعية.

وتعرف الدكتورة رشيدة برادة المدرسة العتيقة بأنها: ” بناية كانت تحبس لمزاولة التعليم وإيواء الطلبة الذين كانوا يفدون عليها قصد التعلم من مختلف أنحاء البلاد، ومصطلح التحبيس يعني أن هذه البناية كانت لاتمول من بيت المال. وإنما يحبس عليها من أملاك الرعية أو الحكام”.

و يعد محمد المختار السوسي أول من أطلق مصطلح المدارس العتيقة في كتابيه: ” مدارس سوس العتيقة ” و” سوس العالمة” الموجودة بكثرة في منطقة سوس بالجنوب المغربي “، ولم يقصد رحمه الله بهذا الوصف القدح والتنقيص، وإنما قصد به التفرقة والتمييز، ولذلك تلقاه الباحثون الذين جاءوا بعده بالاستحسان، ولم ينتقده إلا قلة قليلة.

ومن وصف المدرسة التقليدية بالعتاقة، أخذ وصف التعليم الذي يمارس فيها الوصف نفسه، فقيل: التعليم العتيق والمراد به- كما لايخفى – التعليم الذي يمارس في مدارس المغرب القديمة، وهو مقابل للتعليم العصري أو الرسمي أو النظامي”.

وتمتاز المدارس العتيقة باستقلال بناياتها، واعتمادها على الأحباس وصدقات المحسنين في دفع أجرة المدرسين، وتكاليف المبيت، ومصاريف الأكل والشرب واللباس، وشراء الكتب الدراسية وكرائها لنسخها، “بل ويكون ضمن أحباسها أحيانا مقبرة لدفن من يتوفى من طلابها، كما هو الشأن بأقدم مدرسة بسبتة” ، كما أن المدرسة العتيقة مؤسسة حضرية بامتياز أكثر مما هي مؤسسة بدوية، فضلا عن كونها مؤسسة تعليمية سنية صريحة أو رباطا جهاديا وزاوية صوفية.

وتعني المدارس العتيقة أيضا الكتاتيب القرآنية (المكتب، الكتاب، والمسيد، ودار الفقيهة)، والمساجد، والجوامع، والروابط، والزوايا، والمدارس الحضرية التي كان يشيدها السلاطين المغاربة بفاس، ومراكش، ومكناس، وسبتة،

 

 * البدايات الأولى

 

إذا كانت ظاهرة المدارس التعليمية بالشرق قد ظهرت في القرن الخامس الهجري إبان العصر العباسي مع الوزير نظام الملك الذي أسس مدرسته العلمية ببغداد وهي أول مدرسة في الشر، فإنها تواجدت في المغرب حسب عبد الله كنون في نفس القرن في عهد المرابطين مع مدرسة أجلو التي تأسست قرب تزنيت، أي مدرسة وجاج بن زلو التي تتلمذ فيها عبد الله بن ياسين أحد مؤسسي الدولة المرابطية. ويذهب بعض الباحثين إلى أنها ظهرت في العصر المريني في القرن السادس الهجري كما نجد ذلك عند صاحب القرطاس الذي يرجع بداية تأسيسها إلى يعقوب المنصور الموحدي الذي ينسب له بناء الكثير من المدارس في كل من إفريقيا والمغرب والأندلس.

و”مما يؤكد هذا التضارب حول تاريخ تأسيس المدرسة، أن بعض المصادر التاريخية تنفي ظهورها بالمغرب قبل القرن السابع الهجري، ويأتي محمد المنوني بدوره ليثبت تاريخ تأسيس المدارس بالمغرب في العهد الموحدي، وبالضبط على عهد الخليفة المرتضى، الذي أسس مدرستي القصبة، وجامع المرتضى وهو جامع ابن يوسف بمراكش.

إلا أن المدارس كمؤسسات تعليمية، عرفت في العهد المريني ازدهارا واسعا واهتماما كبيرا من لدن السلاطين الذين أسسوا عدة مدارس في المدن المغربية، وخاصة مدينة فاس التي عرفت في هذا العهد ازدهارا ثقافيا كبيرا، فأصبحت قبلة للعلماء، ولم يقتصر مشروع بناء المدارس على مدينة فاس وحدها، بل استفادت منه مدن أخرى كسلا ومكناس ومراكش وغيرها”.

لكننا نرى أن المدارس العتيقة ذات المنحى الشرعي ظهرت في المغرب مع الفتوحات الإسلامية مع عقبة بن نافع، وحسان بن النعمان، وموسى بن نصير. وكان الهدف من هذه الفتوحات هو نشر الدين الإسلامي في المغرب والأندلس وتفقيه الناس في العلوم الشرعية وأصول الدين و اللغة العربية. وكانت المساجد والجوامع بطبيعة الحال فضاءات للتوريق (الوعظ والتذكير والاستغفار والاستتابة) والتدريس والتعليم.

 

* عصر الفتوح

برزت المدارس القرآنية إلى الوجود بالمغرب كما قلنا سابقا مع الفتوحات الإسلامية مع عقبة بن نافع أولا، و حسان بن النعمان ثانيا، وموسى بن نصير ثالثا. فأهم تنفيذ فعلي لتشييد هذه المدارس الدينية وتنشيطها وتفعيلها بدأ في عهد حسان بن النعمان الحساني، “أحد ولاة أفريقية من قبل عبد الملك بن مروان. فإنه كان من الممهدين السبيل لتقدم الثقافة العربية واستقرار الحضارة الإسلامية بالمغرب. فدون الدواوين، ورسًم اللغة العربية، أي جعلها لغة الدولة الرسمية، فأوجب بذلك تعلمها على السكان، المسلمين وغير المسلمين. ثم بعد ذلك، أنزل عمر بن عبد العزيز بإفريقية والمغرب عشرة من الفقهاء يعلمون الناس القرآن ويفقهونهم في الدين”

 

ويقول عبد الله كنون في هذا الشأن: “إن المغاربة لم يعادوا الإسلام في أول الأمر. ولم يقاوموه تلك المقاومة العنيفة إلا لجهلهم بحقيقته، وعدم إحاطة علمهم بمحاسنه ومزاياه. وقد فطن لذلك الولاة العرب بعد حين؛ فرتبوا لهم الفقهاء والقراء يلقنونهم العربية ويبصرونهم بالدين. فلما اكتنهوا كنهه، وعرفوا حقيقته، وتمرسوا بتعاليمه السامية وآدابه العالية، أصبحوا من أكبر دعاته وأحمى أنصاره. فجاهدوا في سبيله الجهاد الأكبر، وبذلوا النفس والنفيس لإبلاغ دعوته إلى أقاصي البلاد. فهم الذين فتحوا الأندلس وسهلوا طريقها للعرب، ومازالوا بعد ذلك حاميتها وذادتها إلى آخر العهد بها. وهم الذين اقتحموا مجاهل إفريقية، وحملوا الهداية الإسلامية والثقافة العربية إلى السًوادين كما هو معلوم”.

ومن الجوامع الدينية الإسلامية التي تأسست إبان تأسيس دولة الأدارسة بالمغرب جامع القرويين الذي يعد أقدم جامعة إسلامية في العالم، فقد بني في فاس سنة 245ﻫ من قبل سيدة كريمة فاضلة هاجرت مدينتها القيروان متجهة نحو المغرب، فاستقرت بفاس، وتسمى هذه المحسنة أم البنين الفهرية.

 

وتأسس في المغرب العديد من المدارس التعليمية والمؤسسات التربوية الدينية التي تعنى بمدراسة الفقه المالكي وتعليمه وشرح مؤلفاته وتفسير متونه على يد مجموعة من العلماء الذين ارتحلوا إلى الأندلس والحجاز ومصر من أجل الحج أونهل العلم أوالتفقه في المذهب المالكي. ومن المعروف أن جامع القرويين منذ عهد الأدارسة أخذ على عاتقه مهمة تدريس المذهب المالكي وتقييد شروحات مدوناته وهوامشه وحواشيه.

ولما عاد العلماء الرحالون إلى المغرب بدأوا في نشر المذهب المالكي وتفسيره والحكم به في الفتيا والقضاء والعدالة والتوثيق، وقاموا بتأسيس قواعد العلم ومعاهد الدين في مختلف أنحاء البلاد

*  عصر المرابطين

 

 اهتم المرابطون كثيرا بالعلوم والفنون والآداب، وأسسوا عدة مدارس لتلقين المعارف والآداب وتدشين الجوامع الدينية لتدريس العلوم الشرعية والفقهية. كما تحققت في هذا العصر أيضا نهضة فكرية وفلسفية يشهد بذلك المؤرخون العرب والأجانب.

ومن أهم المنجزات في هذا العهد توسيع جامع القروين وتزيينه والاهتمام به اهتماما كبيرا، كما تم تأسيس جامع ابن يوسف بمراكش ليكون مثل جامع القرويين بفاس.

 

ويعد عصر المرابطين عصر انبثاق المدارس الإسلامية الأصيلة وانتشار المراكز الثقافية في فاس ومكناس ومراكش وفي جميع ربوع سلطنة حكام الدولة المرابطية وخاصة في عهد يوسف بن تاشفين وأبنائه.

 

وقد خرجت المدارس التي بناها المرابطون في المدن والبوادي وخاصة في منطقة سوس مجموعة من العلماء النابهين في تخصصات عدة رفعتهم إلى مصاف رجال الفكر في العالم الإسلامي. وقد بلغت مدارس سوس نحو أربعمائة مدرسة، تحدث محمد المختار السوسي في كتابه: “سوس العالمة” عن خمسين مدرسة منها، وفي “مدارس سوس العتيقة” عن مائة مدرسة منها.

 

وكانت القبائل هي التي تمول هذه المدارس عن طريق تخصيص بعض أعشار محصولاتها الزراعية لها، وتحبيس بعض الأملاك من أجل الصيانة والتموين وتحمل تكاليف المدرسة، وكانت القبائل السوسية تتنافس في بناء المدارس بالجبال والسهول، وكانت لكل قبيلة مدرسة أو مدرستان أو ثلاث مدارس.

 

ومن أبرز المدارس التي شيدت في عصر المرابطين إضافة إلى ما سبق نذكر “مدارس سبتة، ويذكر ابن الآبار عدة مدارس أخرى كانت بطنجة، وأغمات وسجلماسة، وتلمسان، ومراكش. وكانت هذه المدارس تأوي علم القيروان وثقافة الأندلس المشهورة، حيث نبغ فيها أعلام كبار، منهم في علم الفقه والحديث أبو علي كما نبغ منها القاضي عياض، وأبو الوليد ابن رشد مؤلف كتاب المقدمات الأوائل للمدونة، والبيان والتحصيل، إلى آخر كتبه القيمة”.

وهكذا، يتبين لنا بأن عصر المرابطين هو عصر انبثاق المدارس العتيقة التي بدأت تعتمد على طرائق عدة في مجال التعليم والتدريس كالطريقة القيروانية، والطريقة الأندلسية، والطريقة المشرقية، والطريقة المغربية.

 

 

* عصر الموحدين

 

يعد عصر الموحدين عصر انتشار العلم ورواج الثقافة ونهضة الفكر والفلسفة وبناء المعاهد والمدارس الدينية وظهور بيت الطلبة الذي كان يسهر عليه رئيس متميز منتقى من الطلبة المجتهدين المتفوقين تدبيرا وتسييرا وإشرافا. وهذا البيت كان بمثابة مجمع علمي يؤمه الطلبة من كل حدب وصوب، كما كان يدرس فيه فقهاء راسخون في العلم لهم صيت كبير في الدولة بمؤلفاتهم المشهورة ومصنفاتهم الموسوعية العديدة. ومن هنا، فقد عرف هذا العصر بناء: “عدة مساجد ومدارس في كل من أفريقية والأندلس والمغرب، ومنها المسجد الأعظم بمدينة سلا ومدرسته الباقية إلى الآن شاهدة بأن هذا المسجد يضاهي القرويين في الضخامة والجفوة كان من معاهد العلم المقصودة حتى احتيج إلى بناء مدرسة حوله. ويعد بناء المدارس في هذا العهد من مظاهر التقدم العلمي، وقد أصبح تقليدا متبعا حتى من أفراد الشعب. ونشير هنا بالخصوص إلى مدرسة الشيخ أبي الحسن الشاري من أعلام هذا العصر التي أنشأها في مدينة سبتة وكان لها صيت بعيد.

 

 

* عصر المرينيين

 

من المعلوم أن الدولة المرينية اهتمت اهتماما كبيرا بالعلماء والفقهاء والأدباء وطلبة العلم، وبنت مدارس وجوامع عديدة إلى درجة التخمة، أخضعتها للزخرفة والنقش والتزيين والتوسيع والمساعدات المادية والمعنوية. كما اهتمت هذه المدارس والجوامع والروابط بأنواع ثلاثة من العلوم وهي: العلوم الشرعية من فقه وحديث وتفسير، والعلوم الأدبية التي تتمحور حول الشعر وروايته، والعلوم الكونية من فلسفة ومنطق ورياضيات وفلك…

وامتاز هذا العصر بتفريع العلوم والتوسع فيها تبسيطا وتحشية وتقييدا واختصارا وتدوينا واستنباطا. “أضف إلى ذلك أن الطلبة في هذا العصر، كانوا لايستنكفون من الطلب ولو بعد بلوغ المرتبة العليا في التحصيل. فقد كانت هناك طبقة منهم لايمكن أن يقاس بها أكابر علمائنا الآن، لاتفتر عن الطلب، وهي بعد من كبار العلماء. واعتبر بما حكي عن الكانوني، وكان من أئمة الفقه، الذين لايشق لهم غبار، أنه كان يدرس المدونة بالقرويين، ويأتي عليها بأبحاث وتعاليق وشروح مستجادة، فكان يجلس إليه أكثر من مائة معمم، وهم حفاظ المدونة إذ ذاك. وهذا حافز قوي لما ذكرناه كان من نتيجته أن اتسعت دائرة هذه العلوم اتساعا عظيما”.

 

  * عصر السعديين:

 على الرغم من قوة الدولة السعدية وقوة اقتصادها وعظمة حضارتها، إلا أن الجمود كان هو الطابع الغالب على الحياة الفكرية والمظهر الثقافي على غرار الشرق الذي دخل مرحلة الركود والانحطاط مع الوجود التركي في العالم الإسلامي. ومن ثم، فقد أصبح التعليم الشرعي في هذا العصر يعتمد على الشروح والمنظومات التعليمية والمختصرات العقيمة والتلاعب بالمصطلحات والمفاهيم والتعمية في الحواشي والتقييدات، وتعقيد العلوم والمعارف والفنون.

وهكذا، يتبين لنا أن السعديين اهتموا بدورهم بالمدارس العتيقة، وتخرج منها سلاطين الدولة كأحمد المنصور الذهبي إلا أن الوضع التعليمي بالدولة في تلك الفترة كان كاسدا بسبب الجمود والاجترار والتقليد وحشو عقل المتعلمين بالمنظومات والمختصرات العقيمة.

 

* عصر العلويين:

 

يمتاز عصر العلويين بكونه عصر انتشار المدارس العتيقة وبناء المساجد والمعاهد الدينية والروابط التربوية والكتاتيب القرآنية واتساع شأن الزوايا في التهذيب الروحي والتثقيف الديني.

وقد شهد جنوب المغرب أيضا في عصره نهضة علمية مباركة في الآداب والعلوم واللغويات والفنون والشرعيات.

أما السلطان محمد بن عبد الله العلوي فقد أدخل إصلاحا على التعليم، فركز على العلوم النقلية والتوجه العقائدي السلفي، والعناية بنشر كتب السنة وتعويضها عن كتب الفقه، ومنع تدريس الفروع والعلوم العقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق وتصوف الغلاة والقصص الإخبارية.

وتابع الملوك العلويون سياسة بناء المدارس العتيقة والمعاهد الإسلامية إلى يومنا هذا. إلا أنه في مرحلة الحماية الأجنبية على المغرب(1912-1956م) كان هناك نوعان من المدارس: مدارس عصرية تدرس فيها اللغات والعلوم الدنيوية الحديثة من آداب ورياضيات وفيزياء وفلسفة ومنطق وتاريخ وجغرافيا بمناهج أكثر حداثة وتخصصا وتعميقا وتدرجا في المعارف على ضوء معطيات علوم التربية ومقاييس السيكولوجيا، ومدارس تقليدية أصيلة تتمثل في جامع القرويين وجامع ابن يوسف والمساجد والجوامع والزوايا والروابط تتخصص في تدريس العلوم الشرعية واللغوية والأدبية بطرائق عتيقة أكل عليها الدهر وشرب.

وبعد الاستقلال، أخذ المغرب يشيد المدارس العصرية العمومية على ضوء الفلسفات التربوية الغربية مع الاستفادة من تطور التعليم الفرنسي والإسباني. وفي نفس الوقت، ترك المدارس العتيقة لتقوم بأدوارها التربوية والدينية المعهودة إلى جانب إيجاد ما يسمى بمدارس التعليم الأصيل التي كانت تدرس فيها العلوم الشرعية واللغوية والأدبية واللغات والعلوم الحديثة.

ومع ظهور الظهير الشريف 13. 01 في29 يناير 2002م، ارتأت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بتنسيق مع وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي أن تقوما بالإشراف على المدارس العتيقة تدبيرا وتسييرا وتأطيرا ومراقبة وتمويلا حسب الإمكانيات والظروف مع خلق جسور منفتحة بين التعليم العتيق والتعليم الأصيل والتعليم العمومي.

ويلاحظ اليوم أن ثمة الكثير من المعاهد الدينية والمدارس العتيقة التي تتولى تدريس المواد الشرعية، وتقوم بتلقين العلوم القرآنية والدراسات الحديثية وعلوم اللغة من أجل تفقيه التلاميذ والطلبة في مجال الدين الإسلامي والشريعة الربانية لتكوين حفظة القرآن وأئمة المساجد والخطباء.

 

 

 

* نظام المدارس العتيقة بالمغرب :

 

ترتبط المدارس العتيقة في المغرب بالكتاتيب والمدارس والمساجد والجوامع والروابط والزوايا. وكانت القبائل كما في سوس والريف وجبالة والأطلس هي التي تبني المدارس وتشيدها من خلال مواردها الذاتية، وكانت تخصص بعض أعشار محاصيلها الزراعية علاوة على أحباسها لتسيير المدارس وتدبيرها وتموينها ودفع أجرة الفقيه وصيانة المدرسة وإصلاحها. وكانت القبائل تتنافس مع بعضها البعض في بناء المدارس وصرف الأموال عليها؛ لأنها تعتبر ذلك مفخرة شريفة ومنقبة حميدة وصدقة جارية.

 

كما أن الدولة في بعض الأحيان كانت تتدخل بالمساعدة والتمويل والتموين كما في العصر المريني وعصر الدولة العلوية إلى يومنا هذا حيث أصدرت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط ظهير 13. 01 ﺒ29 يناير 2002م تعلن فيه قرار الوزارة الصريح لإعانة الكثير من المدارس العتيقة بالموارد المالية وتقديم المنح والمكافآت المادية لطلبة العلم النجباء والمتفوقين، و تخصيص الأجور والتحفيزات للمدرسين.

 

ويعني هذا أن المدارس العتيقة بالبوادي المغربية كانت تسير بأموال القبائل والمحبسين والمحسنين، بينما في المدن كانت الدولة تتكلف بتموين هذه المدارس والجوامع وتجهيزها كما هو الحال في العصور الماضية ولاسيما في العصر المرابطي  و الموحدي و المريني وفي عهود الدولة العلوية.

 

هذا، وكان الناس يدفعون أجرة الفقيه أسبوعيا أو شهريا قصد تعليم أولادهم وبناتهم كما يدفعون له الشرط سنويا.

وكانت الجماعة هي التي تختار الفقيه المعلم لممارسة التدريس في الكتاب أو مدرسة المسجد وكانت تشترط فيه مجموعة من الشروط كأن يكون متزوجا، ومتمكنا من العلوم الإسلامية، وحافظا للقرآن الكريم والأحاديث النبوية، ورجلا ورعا متخلقا يحسن التدريس، و فقيها كيسا مع المتعلمين، ومتأدبا مع الجيران والناس، يتولى الإمامة والخطابة والتدريس.

 

وكان الفقيه في مدرسته بمثابة مدير لها أو حارس عام يصونها ويحميها ويحافظ عليها، ويساعده في ذلك مقدم الطلبة أو رئيسهم.

 

وكان نظام المدرسة يستند إلى التزام المتمدرسين وطلبة العلم بالأخلاق الحميدة، وتمثل الورع والحياء، واحترام الفقهاء المدرسين والأساتذة، والحفاظ على تجهيزات المؤسسة، والعناية بنظافة المدرسة، وتلميع صورتها، وصيانة أوانيها وكتبها. كما كان يطلب من هؤلاء المتعلمين أن يكونوا جادين مجتهدين متفانين في العلم والاكتساب والتحصيل وحضور الدروس بصفة يومية واحترام القوانين والانضباط داخل المدرسة أخلاقا وسلوكا وتربية وروحا كما هو الحال في المدارس الصوفية الروحانية، وحضور الصلوات الخمس والحزب الراتب الصباحي والمسائي، وغالب الفقهاء يرتبون غرامات مالية على المتخلفين من طلبة العلم عن صلاتهم وعن الحزب الراتب.

 

وفيما يخص مراحل التعليم، فيمكن تصنيفها بعد حفظ القرآن الكريم إلى مرحلة المبتدئين، ومرحلة المتوسطين، ومرحلة المنتهين

وتستغرق الدراسة في المدارس العتيقة بمختلف أطوارها نفس المدة الزمنية التي تستغرقها المراحل الدراسية في التعليم العمومي.

وتنتهي الدراسة في المدارس العتيقة بتقديم شهادة تقليدية وهي الإجازة، وهي شهادة معروفة منذ القديم، فقد كان الفقيه المدرس يجيز طلبته بتحرير شهادة يسمح فيها لطلبته بأن ينقلوا عليه علومه ومعارفه ليقدموها للآخرين. ولا تمنح هذه الشهادة إلا بعد تفوق المتعلم في دروسه واستيعابه لكل المقررات والبرامج الدراسية. بينما في جامع القرويين وجامع ابن يوسف بمراكش كانت تعطى على المستوى العالي شهادة العالمية على غرار الأزهر تعترف بأهلية الطالب وكفاءته العلمية والمعرفية وتؤهله لأن يلقب بصفة عالم يسمح له أن يتولى مجموعة من المناصب التي تخصصها الدولة للعلماء والفقهاء.

ومن المعروف أن شهادة الإجازة التي كان يطلبها المتعلم قد تكون عامة في العلوم النقلية والعقلية، أو خاصة بفن من الفنون كالحديث مثلا، وقد تكون خاصة بكتاب معين كصحيح البخاري، أو شفاء القاضي عياض أو غيرهما…

وآفاق التحصيل تنتهي اليوم، على غير ماكان عليه في السابق في عهد المرابطين والموحدين والمرينيين والوطاسيين والسعديين والعلويين حتى أخر مراحل احتلال المغرب، بالمشارطة في المساجد، أو التدريس في المدارس العتيقة، أو ممارسة الإمامة، والخطابة. ويحرمون من التدريس في المدارس العمومية والخاصة، ومن ممارسة الفتوى أو أداء مهنة العدالة والقضاء والتوثيق، وتولية المناصب الإدارية الأخرى التي أصبحت اليوم مقننة بقوانين عصرية صارمة لا يلجها إلا الحاصلون على الشواهد العصرية من المدارس والمعاهد والجامعات العصرية.

بيد أن الوزارات الوصية على التعليم العتيق أو التعليم الأصيل حاولت تحديثه بمناهج أكثر انفتاحا وعصرنته بالعلوم الحديثة مع ربطه بمسالك التعليم العمومي كما ينص على ذلك الميثاق الوطني للتربية والتكوين في مادته 88 من المجال الثاني المتعلق بالتنظيم البيداغوجي:

 

“تحدث مدارس نظامية للتعليم الأصيل من المدرسة الأولية إلى التعليم الثانوي مع العناية بالكتاتيب والمدارس العتيقة وتطويرها وإيجاد جسور لها مع مؤسسات التعليم العام.

 

– تنشأ مراكز متوسطة لتكوين القيمين الدينيين، وتراجع التخصصات بناء على المتطلبات الآنية والمستقبلية؛

– يقوى تدريس اللغات الأجنبية بالتعليم الأصيل؛

– تمد جسور بين الجامعات المغربية ومؤسسات التعليم العالي الأصيل وشعب التعليم الجامعي ذات الصلة على أساس التنسيق والشراكة والتعاون بين تلك المؤسسات والجامعات”.

 

وقد قررت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الاهتمام بالمدارس العتيقة وتنظيمها قانونيا. لذا، أصدرت ظهيرا شريفا في ثمانية أبواب وست وعشرين مادة قانونية مصدرة بالمؤشرات التالية: ظهير شريف رقم 1. 02. 09 صادر في 15 ذي القعدة 1422 (29 يناير2002) بتنفيذ القانون رقم 13. 01 في شأن التعليم العتيق. والهدف من هذا الظهير هو التحكم في المدارس العتيقة قانونيا وتدبير شؤونه بطريقة عقلانية منظمة وممنهجة تحت إشراف الدولة. ومن ثم، فوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هي التي تحدد برامج التعليم العتيق ومناهجه بتنسيق مع وزارة التربية الوطنية، وهي التي تسهر على رخص هذه المدارس وأنظمتها الإدارية والتعليمية وشهاداتها ومواردها المالية وتخرج متعلميها وتأمين نفقات مدرسيها إلى جانب الموارد الأخرى التي تأتي عن طريق المحسنين والمؤسسات الراعية.

وتحدد المادة الرابعة من الظهير الشريف الفضاءات التعليمية لهذا النوع من التعليم التقليدي، وطبيعة المناهج والبرامج الدراسية التي ينبغي للمدارس العتيقة الأخذ بها. يقول القانون المنظم:” تدرس برامج التعليم الأولي العتيق بالكتاتيب القرآنية، وبرامج التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي بالمدارس العتيقة، وبرامج التعليم النهائي بجامع القرويين والجوامع الأخرى ومؤسسات التعليم النهائي العتيق.

ويجب أن تتضمن البرامج الدراسية المطبقة بمؤسسات التعليم العتيق حصصا إلزامية من المواد المقررة بمؤسسات التعليم العمومي في حدود الثلثين من الحصص المخصصة لهذه المواد بما في ذلك مادتي اللغات والرياضيات والرياضة البدنية كلما أمكن ذلك.

وتتوج الدراسة بطور التعليم الابتدائي بشهادة التعليم الابتدائي العتيق، وبطور التعليم الإعدادي بشهادة التعليم الإعدادي العتيق، وبطور التعليم الثانوي بشهادة باكالوريا التعليم الثانوي العتيق، وبطور التعليم النهائي بشهادة العالمية في التعليم العتيق”.

ويقسم الظهير الشريف المدارس العتيقة إلى قسمين: مدارس عتيقة عمومية ومدارس عتيقة خصوصية، حتى أصبح التعليم العتيق اليوم لايختلف في جوهره عن التعليم الأصيل العمومي. ومن ثم، تقول المادة الخامسة من الظهير الشريف:” يشتمل التعليم العتيق على تعليم عتيق عمومي وتعليم عتيق خاص.

ويخضع التعليم العتيق العمومي لتنظيم وتسيير السلطة الحكومية المكلفة بالأوقاف والشؤون الإسلامية والتي يشار إليها بالإدارة في مواد هذا القانون.

ويخضع التعليم العتيق الخاص للمقتضيات المنصوص عليها في هذا القانون”.

ويتبين لنا من خلال هذا العنصر أن نظام المدارس العتيقة كان يتغير من فترة إلى أخرى ومن عهد إلى آخر حسب مستجدات الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للدولة أو السلطنة، على الرغم من وجود مجموعة من الثوابت المشتركة أو الأعراف السائدة مازالت تتحكم في تسيير هذه المدارس العتيقة وتدبيرها إداريا وتعليميا وتربويا من أقدم فترة تاريخية إلى عهدنا هذا.

 

http://alassil.org/vb/showthread.php?p=4207

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى