المزيد

وجهة نظر : فاتح ماي المغربي بين الأمس و اليوم

خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، كان العمال المغاربة في فاتح ماي من كل عام، ينزلون إلى الشوارع تتقدمهم القيادات النقابية، متراصين، حاملين الأعلام والصور واللافتات

وكانت مظاهرهم توحي إلى المشاهد بصفوف الجيوش الرومانية، التي تنزل إلى ساحات القتال وتصطف قبالة بعضها البعض، قبيل انطلاق المواجهة
كانت حناجر العمال البؤساء، تصدح بشعارات تلهب حواس رجال السلطة، من قبيل “هز قدم حط قدم الشوارع تسيل بالدم”، إضافة إلى صور القادة الثوريين العالميين، وإلى جانبهم صور الزعماء النقابيين، الذين يثيرون حساسية النظام، ما يجعل أصابع رجال الأمن على أهبة الضغط على الزناد، وأياديهم مشدودة إلى الهراواة تحسبا لأي طارئ

كانت طقوس عيد الشغل تحفل بالمفاجآت، وكانت وكالات الأخبار تتسابق على نقل الأحداث الساخنة من قلب كل عاصمة، وكان العمال في الدارالبيضاء، القلب النابض للمغرب، وهم في خضم المسيرات الساخنة، لا تفارق أيادي بعضهم، في هذا اليوم الرهيب، جهاز “الترانزيستور”، لالتقاط الأخبار، وما أن يسمع أحدهم باندلاع مواجهات في جاكارتا أو مانيلا، حتى يصيح بأعلى صوته، داعيا المتظاهرين إلى رشق قوات الأمن بالحجارة، تضامنا مع العمال في أندونيسيا أو الفيلبين
وما كان يؤجج المواجهة، هو استعداد رجال الأمن على الجبهة الأخرى، لتنفيذ الأوامر، التي يتلقونها مسبقا بقمع المتظاهرين وتكسير عظامهم، وغالبا ما كانت أحداث فاتح ماي، تكتب في الساحات والشوارع بالدم، وكان العمال يردون بتكسير واجهات المحلات التجارية الكبرى، التي لا يحلمون حتى بالدخول إليها، وكانت إشارات المرور، التي تنظم حركة السير، تتعرض للتدمير، كمؤشر على سخط العمال ورفضهم لأي رمز قانوني أو ذي صلة بالنظام والدولة، كما كانت الوكالات البنكية تثير مشاعر الكادحين، فلا يترددون في الهجوم على واجهاتها، ولا تسلم العمارات والفيلات والأعمدة الكهربائية، التي توجد في طريق الشغيلين والشغيلات
وما كان يثير الدهشة أكثر، لجوء قياديين نقابييين وهم يتقدمون المسيرات، إلى سب رجال الأمن واستفزازهم، علما أن فاتح ماي عرسهم، وهم عرسان، ما يجعل رجال الأمن يردون عليهم بالضرب أو الاعتقال، فتقوم القيامة، وتندلع المواجهات، ويصبح عدد الساقطين على الأرض أكثر من عدد الواقفين عليها


وعند غروب شمس يوم عيد الشغل لا يختلف إثنان في وصف الساحات والشوارع، بعبارة، “من هنا مرت الحرب”، أوراق مبعثرة وزجاج على الأرض وحواجز مكسورة وآثار دماء هنا وهناك، وسيارات مقلوبة أو محروقة، ودخان يتصاعد من هناك. وغالبا ما كان مآل القياديين النقابيين بعد كل عيد، هو السجن
كانت هذه صورة عن فاتح ماي، وكان هؤلاء الزعماء النقابيون والشغيلون والشغيلات القدامى، أما اليوم، وبعد تقدم السن بأولئك النقابيين، تحولوا إلى قطط وديعة، بعدما كانوا يمثلون دور النمور، ضد الحكومة ورجال الأعمال والطبقة الغنية، وأصبح العمال بدورهم واعين بلعبة “عيد الشغل”، ولا يفارق وعيهم تلك الصورة، التي ظهر فيها زعماء ما يسمى بالنقابات المركزية إلى جانب وزير الداخلية الأسبق حول مائدة طعام يتقاسمون فيها كبشا مشويا، بمناسبة إحدى دورات ما يسمى بالحوار الاجتماعي


تحولت المواجهات بين الشغيلين ورجال الأمن، في عيد العمال، إلى مناسبة لتبادل التحايا، هناك تغييرات كبيرة حدثت على الصعيد السياسي والنقابي، فالمعارضة التي تسند النقابات، استلمت مقاعدها في الحكومة منذ عام 1998، ومعظم الزعماء النقابيين، زاروا الديار المقدسة في رحلة حج أو عمرة، ودخلوا سن التقاعد النضالي، وبعضهم أصبح لديه أو لأبنائه شركات، والحوار الاجتماعي صار مسلسلا مكسيكيا مستمرا إلى اليوم، كما أن رؤساء المكاتب النقابية تحولوا إلى مفاوضين جيدين مع أرباب العمل، وأصبحوا خبراء في الأزمات الاقتصادية العالمية، متفهمين للظرفية الإقليمية والدولية، كثيري الأسفار إلى الخارج
كما أن العمال والمستخدمين، صاروا بدورهم أكثر وعيا بأسطورة “فاتح ماي”، فجل الطبقة الشغيلة مدين لرب العمل أو للبنك أو لأحدى شركات السلف، بقرض أو قرضين أو أكثر، وآخر العمال المدينين يعلم جيدا أن فاتح ماي هو يوم واحد وأن فصله من العمل أو اعتقاله في يوم عيد الشغل، سيعرضه طيلة 364 يوما للمتابعة من قبل الجهة الدائنة، ويعلم أن مصيره السجن، ليس بسبب النضال، لكن بسبب عدم تسديد الدين

لهذه الأسباب تحول فاتح ماي إلى يوم للمهرجانات والخطب العصماء وتبادل التحايا وشرب الشاي والتهام الحلوى

عبد الهادي مزراري | المغربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى