المزيد

ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً

(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً “29” ) تحدث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذرين، وحذرنا من هذه الصفة، وفي هذه الآية يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للإنسان سلامة حركته في الحياة.
فقوله تعالى:

{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .. “29” }
(سورة الإسراء)

واليد عادة تستخدم في المنح والعطاء، نقول: لفلان يد عندي، وله علي أياد لا تعد، أي: أن نعمه علي كثيرة؛ لأنها عادة تؤدى باليد، فقال: لا تجعل يدك التي بها العطاء (مغلولة) أي: مربوطة إلى عنقك، وحين تقيد اليد إلى العنق لا تستطيع الإنفاق، فهي هنا كناية عن البخل والإمساك. وفي المقابل

{ولا تبسطها كل البسط .. “29” }
(سورة الإسراء)

فالنهي هنا عن كل البسط، إذن: فيباح بعض البسط، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة. وبسط اليد كناية عن البذل والعطاء، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذر ومعنى بذر الذي سبق الحديث عنه


فبذر: أخذ حفنة من الحب، وبسط بها يده مرة واحدة، فأحدثت كومة من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً، وهذا هو التبذير المنهي عنه، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذر فيأخذ حفنة الحب، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي بذر.
وهذا هو حد الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم، وهو الوسط، وكلا طرفيه مذموم. وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى:

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما “67”}
(سورة الفرقان)

أي: اعتدال وتوسط
إذن: لا تبسط يدك كل البسط فتنفق كل ما لديك، ولكن بعض البسط الذي يبقى لك سيئاً تدخره، وتتمكن من خلاله أن ترتقي بحياتك
وقد سبق أن أوضحنا الحكمة من هذا الاعتدال في الإنفاق، وقلنا: إن الإنفاق المتوازن يثري حركة الحياة، ويسهم في إنمائها ورقيها، على خلاف القبض والإمساك، فإنه يعرقل حركة الحياة، وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في الأسواق وكساد يفسد الحياة، ويعرق حركتها
إذن: لابد من الإنفاق لكي تساهم في سير عجلة الحياة، ولابد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تبقي على شيء من دخلك، تستطيع أن ترتقي به، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس
فالمبذر والمسرف تجده في مكانه، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة، كيف وهو لا يبقي على شيء؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة، ونوفر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي
ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير

{فتقعد ملوماً محسوراً “29” }
(سورة الإسراء)

وسبق أن أوضحنا أن وضع القعود يدل على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة، وهو وضع يناسب من أسرف حتى لم يعد لديه شيء
وكلمة (فتقعد) تفيد انتقاص حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها؛ لذلك قال تعالى

{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله .. “95”}
(سورة النساء)

ملوماً أي: أتى بفعل يلام عليه، ويؤنب من أجله، وأول من يلوم المسرف أولاده وأهله، وكذلك الممسك البخيل، فكلاهما ملوم لتصرفه غير المتزن.(محسوراً) أي: نادماً على ما صرت فيه من العدم والفاقة، أو من قولهم: بعير محسور. أي: لا يستطيع القيام بحمله. وهكذا المسرف لا يستطيع الارتقاء بحياته أو القيام بأعبائها وطموحاتها المستقبل له ولأولاده من بعده
فإن قبضت كل القبض فأنت ملوم، وإن بسطت كل البسط فتقعد محسوراً عن طموحات الحياة التي لا تقوى عليها
إذن: فكلا الطرفين مذموم، ويترتب عليه سوء لا تحمد عقباه في حياة الفرد والمجتمع. إذن: فما القصد؟
القصد أن يسير الإنسان قواماً بين الإسراف والتقتير، كما قال تعالى

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما “67”}
(سورة الفرقان)

فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وسطاً ينظم الحركة الاقتصادية في حياة المجتمع، فابسط يدك بالإنفاق لكي تساهم في سير عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء، لكن ليس كل البسط، بل تبقي من دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة، وكذلك لا تمسك وتقتر على نفسك وأولادك فيلومونك ويكرهون البقاء معك، وتكون عضواً خاملاً في مجتمعك، لا تتفاعل معه، ولا تسهم في إثراء حركته

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى