المزيد

قرأت لكم : كازابلانكا أو حين تفقد المدينة روحها

كازابلانكا صباحا. تبدو المدينة كئيبة رمادية غارقة في النفايات التي تملأ الأرصفة، تغرق واجهات المتاجر والشوارع الشبيهة بمنافي مفتوحة أمام اجتياح الأطياف. المدينة تمتد كصحراء مأهولة بالعزلة/بالعزلات. الناس يعبرونها كأفراد مسكونين بالصمت كأن لا لغة توحدهم. اللغة أول الأشياء المشتركة، لكنها في هذا الفضاء-الغابة الممتد الأطراف والأرجاء المتناسل الكوارث، تبدو كقدر محتوم، كلعنة تحكم الأجساد، تلزمهم بالسكن في ملاذاتهم الخاصّة، في منافيهم الآيلة للإنقراض. كل واحد يلوذ بلغته الخاصة وصمته المحتوم. لا أحد يكلّم الآخر إلا باللغة البالغة العدوانية ذاتها التي يتكلمها الكل، والتي هي المشترك. الناس/الأفراد اندلقوا من بطون الوحوش المعدنية توّا، من مقصورات القطار في كازابور وحافلة 900 المهترئة التي تخترق طريق زناتة، تلك الطريق الغروبية الممنوحة للفقدان والضياع وشاطئ المحيط المليء بالنفايات، حيث يعيش المنكوبون والمهمشون والمقصيون من دورة الإنتاج، تلك الطريق التي تكتشف عبرها تاريخ الجهد الإنساني وتتيقن بالفعل بأن الصراع الطبقي مازال جزءا هامّا من التاريخ اليومي للإنسانية

الأفراد يجازفون جماعات بعبور الشارع الخطير ذي الاتجاهين، يدخلون في صراع معلن مع سائقي السيارات العصابيين الذي يضطرون للتوقف عنوة، أمام هذا السيل البشري العابر، فينتقمون من الآخرين ومن أنفسهم بإطلاق العنان لأبواق سياراتهم الصاخبة. الكل يركض. الأفراد-الأطياف يمارسون الهرولة الصباحية. كل واحد يهرول حسب جهده وحاجته، النسوة البدينات بمؤخراتهن الضخمة المضغوطة في سراويل الجينز، المراهقات النحيفات الشبيهات بمانكانات، الشيوخ والشبان الذين يتدافعون مع الآخرين بالمناكب ويركبون صلف عنفوانهم، الحضريون والبدو الذين يقطعون الشارع كما لو أن الأمر يتعلق بحقل بطاطا، وموظفو الأبناك ببذلاتهم الأنيقة اللاصقة. الأطياف تعبر أسفل الأبراج الشاهقة لفندقي إبيس وسوفيتيل. البواب هناك أمام بوابة الفندق ببذلته السوداء وقبعته الإنجليزية التي تعود إلى القرن الثامن عشر، يبدو كشكل نشاز وسط معالم هذه الحداثة العمرانية المعطوبة. البعض اندلق باتجاه شارع الجيش الملكي والبعض الآخر نحو بوسمارة حيث البحث المضني عن مقاعد في حافلات مهترئة أخرى تقود إلى بعض المناطق داخل الغابة. سائقا طاكسي أوقفا سيارتيهما وسط الشارع أمام الفندق، وشرعا يتبادلان السباب بكلمات بذيئة فيما بعض السياح الأجانب يتفرجون على المشهد بغرابة. هذه المدينة البالغة الغموض التي تركتها منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، قلت لنفسي، تزداد إيغالا في عريها ووحشيتها. لقد انتشرت وتناسلت وتغولت وصارت كلها شبيهة بقرية كبيرة يرتادها المهاجرون من كل حدب وصوب، يبيعون الحلزون والتين الشوكي والبيض المسلوق وأكياس المناديل الورقية، بجوار الفنادق والمقاهي والمطاعم والمتاجر ذات الماركات العالمية. سائقو السيارات المرسيدس البيضاء يتصايحون قرب البرانس، ينادون على أسماء الأحياء الهامشية، البرنوصي، شارع الشجر، شارع ال…، وأسماء أخرى شبه مقذوفة في مدارات النسيان. أطفال الشوارع الصغار السن يتمرنون على الاستيقاظ عند عتبات العمارات وأسفل الواجهات الزجاجية. مراهقون طاعنون في تيه لا رجعة منه، كأن المدينة حقل شاسع ومتاهي يمخره العميان. لم يكن لكازابلانكا يوما مّا مركز حضري قار والآن تعددت مراكزها ساحت وانتشرت كوباء أخطبوطي غامض لم يعد قابلا للتحديد في الزمان والمكان. وحدها القبائل تعيش فيها، تعيشها، تخترقها يوميا موظفون صغار، رأسماليون كبار، كائنات هلامية قادمة من هوامش عمياء تتعايش فيها الأجساد والمصائر المحجوزة والأرواح المكسرة، فراشة يبيعون كل شيء، عاهرات، مدمنو مخدرات، نصابون، نشالون وقطاع طرق، بورجوازيات تافهات يرطنن بفرنسية ركيكة ويعتقدن بأنهن يعشن في باريس. لم تعد الأمكنة مقسمة بالتساوي بين الأقوياء من الأغنياء والضعفاء من الفقراء. تداخل الغنى والفقر في كل الأمكنة. المتسولون يجوبون الشوارع الفسيحة حيث تتراص المقاهي الأنيقة التي يرتادها أبناء الذوات، تمتد الأيادي بصلف كأنها تروم حيازة حصتها الملعونة عنوة، بائعو التين الشوكي يحتلون الأرصفة بعرباتهم المهترئة. كل واحد يصرخ في أعماق ذاته «ها هي كازابلانكا…إنها مدينتي». قال لي سائق طاكسي مرة حين سألته عن الآلاف من الكائنات التي صارت تملأ الشوارع والأرصفة: (ثلثا سكان هذه المدينة فراشة يبيعون ويشترون في كل شيء، ولو ثم تنظيم المدينة وإزالة كل علامات ومظاهر الفوضى لقامت الحرب الأهلية). شابان مشردان في هذا الصباح الرمادي حاولا سرقة متسول مقعد يسير على كرسي. امرأة واقفة أمام البنك تصرخ وتشتم في التيلفون المحمول، تتلفظ بكلمات وقحة غير آبهة بالعابرين، أحدهم يقف ملتصقا بحائط ويشرع في التبول الذي تملأ رائحته الكثير من الزوايا والأمكنة كأن الشوارع مرحاض مفتوح. في هذه المدينة من الضروري أن يتبنى المرء أقصى درجات الاحتراس حتى لا تباغته المفاجئات غير السارة والصدف المجنونة، مثل أن يسرق أحدهم هاتفك المحمول وحافظة نقودك وأوراقك الرسمية، أو يترصدك لصوص مسلحون بخناجر كالسيوف وأنت تسحب بعض المال من الموزع الأوتوماتيكي للبنك ليسرقوه منك، أو غير ذلك من الأحداث المبهمة الذي يدعوك آخرون بعدها إلى ضرورة حمد الله لأنك نجوت بحياتك. في إحدى الشوارع طلبت منّي شابة جميلة بأن أقف بجوارها حتى تسحب بضع أوراق نقدية من الموزع، لأن المكان خال وحين انتهت شكرتني بابتسامة مشرقة وذهبت. مع تداخل الشرائح والطبقات المتناقضة وزحف فقراء الهوامش الرثة على المدينة العصرية، صارت كل الشوارع شبيهة بسوق قروي مفتوح يباع فيها كل شيء ويشتري. أما التسول فقد صار حرفة الآلاف الذين يتصايحون، يصرخون بالدعوات كأنهم يودون الإمساك بخناقك. منذ أسابيع وأنا أرى بجوار واجهة بنك امرأة محجبة صحبة فتاتين، أجدهما كلما حضرت إلى المدينة غارقتين في النوم في عز الصباح، عكس طبيعة الأطفال في اللعب والشغب. مؤكد أن المرأة تكتريهما وتعطيهما مخدرا ليناما طيلة النهار. حيثما وليت وجهك لا تجد غير عربات الساندوتش، التي يوقفها أصحابها أحيانا قرب صناديق القمامة. الكل يلتهم حصته من تلك المأكولات الغامضة المصدر. منذ أيام توقفت للحظات قرب عربات بائعي الصوصيص (النقانق) المنتشرين قرب القيسارية في بلوك الكدية بالحي المحمدي. راعتني الحمرة القانية للصوصيص، التي لم أرها من قبل أبدا، وحين سألت أحدهم قيل بأنهم يخلطون اللحم المفروم الغامض، المصدر بمادة كيميائية صالحة لصبغ خيوط الصوف ومسببة للسرطان. غير بعيد كانت النسوة جالسات وسط إسفلت الشارع مباشرة، يقمن بصنع البغرير الذي راعتني صفرته المفرطة، وحين سألت إحداهن قالت بكل وضوح بأن سبب الصفرة استعمال الزعفران. حتى الدجاج الميت في سوق الجملة يباع مشويا في السناكات والمطاعم. لكن الكل يأكل بنهم غير عابئ بالعواقب الوخيمة، بل إن المنتظرين الجالسين مصطفين أمام عربات النقانق يفوق عددهم التصور، ينتظرون بأناة وصبر بالغين، كأن الأمر يتعلق بساندويتش العمر. الشيء الوحيد الذي يمكن أن تثق به في كازابلانكا هو ألا تثق في أي شيء. الناس تائهون، حائرون، بعضهم يظل جالسا في المكان ذاته طيلة النهار، بل لأيام وشهور عديدة. غبت سنوات عن المدينة وحين عدت مضطرا لزيارتها، وجدت الرجل الذي يبيع السجائر بالتقسيط ذاته جالسا أمام واجهة البنك في ساحة 11 نوفمبر، الاختلاف الوحيد هو أن شعر رأسه ازداد بياضا

مصطفى الحسناوي

الاتحاد الاشتراكي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى