المزيد

قرأت لكم : وما العمر إلاّ لحظة

تغيب عن سمائنا شموس كثيرة وتنسحب من تحت أقدامنا السنوات تلو السنوات، فيمررّ الزمن يده الخشنة على أجسادنا و يسكب في أرواحنا مذاقه المرّ، لكن هل يحدث لنا أن نتوقف لحظة و لو وجيزة لننظر داخل أعماقنا بحثا عن تلك الحقيقة المنفلتة التي اسمها العمر؟ … كيف نعيشها وهل نشعر بتلك الحركة البطيئة غير المرئية التي اسمها الزمن؟ كيف نكبر؟ و هل نستطيع أن نحدد حجم التحوّل الذي حلّ بنا؟ ماذا يتغير فينا بالتحديد؟ متى نشعر أننا أصبحنا “كبار” ولم نعد أطفالا؟ ما هو السن الذي “نحسّه” هل هو سننا في بطاقة التعريف أم سنّ أصغر أو ربّما أكبر؟ باستثناء شيخوخة أجسادنا و حاجتنا المتزايدة للمراهم المضادة للتجاعيد و الأصباغ التي تستر الشعر الأبيض، ماذا يحدث فينا أيضا؟؟؟؟

تحدث أمور كثيرة.. بالتأكيد .. و”ما العمر إلاّ لحظة ” قالها الشاعر

العمر هذه البوصلة السرّية التي توجّه الأجساد يوما بعد يوم رأسا نحو النهاية، نحن لا نعيه بنفس الحدّة ولا نولي له جميعا نفس الانتباه

أعرف الكثير من الشيوخ في عمر الزهور كما أعرف الكثير من الشباب في سنّ الشيخوخة. محظوظ بالتأكيد من استطاع أن يحافظ على وهج الشباب داخل قلبه

لكنّ محظوظي الشباب الدائم في بلدي ليسوا كثيرين للأسف،هذا من جهة و من جهة أخرى يظل المغرب مثله مثل جميع البلدان حديثة العهد بالنمط العصري، بعيدا عن الوضوح العلمي في تصنيف الأجيال. المغاربة مثلا، و حتّى وقت قريب لم يكونوا لينجحوا في تحديد العمر الذي يدخل فيه أبناءهم سنّ المراهقة و العمر الذي “يخرجون” فيه من هذه المرحلة. فالمراهقون الذين ينتشرون حولنا اليوم ككائنات مشوشة تغطي وجوهها البثور و تنزلق سراويلها نحو الأسفل، لم يكن لها وجود قبل اليوم، فحتى زمن غير بعيد كان المراهقون في المجتمع التقليدي هم أنفسهم الآباء والأمهات و كانوا مثل جميع الآباء غارقين في هموم اليومي و احتياجات الأبناء، الأمر الذي كان يصرفهم عما يعتمل في أجسادهم و أنفسهم من اضطرابات و حروب ضارية

ثمّ لنتأمّل قليلا طفل اليوم، هذا الكائن العجيب الذي أصبح يصول و يجول داخل الأسرة الحديثة، مهيمنا على فضائها و موجّها كلّ اختيارات و قرارات الأبوين، هذا الشخص الصغير المحبوب من الجميع لم يكن دائما متربّعا على عرش الأسرة كما هو حاله اليوم، بل كان وكما نعرف جميعا أحد أهمّ “المشاريع” الاستثمارية للآباء حيث كان يساهم بدوره في اقتصاد القبيلة، (لا بأس أن نتذكر هنا آباءنا الذين لم يكونوا “أطفالا” تماما أو بما يكفي..) كان الطفل في الماضي مسؤولا عن نفسه بل وأحيانا عن غيره

إنها بطبيعة الحال العادات والتقاليد التي تتدخل في عملية ترتيب المراحل العمرية، القفز عليها أو حتى إلغاؤها، الوضع الاقتصادي أيضا “تدخل” و لا زال يتدخل في تحديد السنّ ليس فقط من خلال زحف الشيخوخة المبكّرة على وجوه الفقراء بل حتّى على مستوى تصنيف الناس داخل المجتمع. سنّ الشباب مثلا، قد يتوقّف عند عتبة الباب المؤدي للحياة الزوجية و همومها، فكثير من المتزوجين “يتنصّلون” من شبابهم لينضموا إلى عالم الكهول للاستفادة من امتيازاته الاجتماعية. أمّا تأخر فرصة الحصول على عمل فتؤخر بالضرورة سنّ الشباب. سمعت أحد السوسيولوجيين سابقا يتحدّث عن سنّ الشباب الذي يطول ويتمدّد كلّما طالت و تمدّدت فترة البطالة، هذا ما يفسر لماذا يظلّ عاطلو الحي مثلا “دراري” في عرف سكانه حتى و لو تجاوزوا الخمسين من عمرهم

هي أوضاع اعتبارية متحرّكة في الزمان و المكان، لا تقف عند سنّ بعينه أو عند جنس دون آخر، فالشيخوخة عند النساء عادة ما تبدأ مع انقطاع الطمث (انتهاء الوظيفة البيولوجية). وقد اعتدنا أن نجري تلك المقارنات بين “عجائزنا” العربيات والعجائز الغربيات ونلاحظ الفرق الشاسع بينهن. ظلّت النساء في النمط التقليديّ المهيمن في بلداننا ينتقلن مباشرة إلى السنّ الأخيرة في الترتيب العمري أحيانا قبل انقطاع الطمث. فكبار السنّ في المجتمع لهم وضع اعتباري، إذ لا تزال كفّة التقليد راجحة في ميزان القيم، لهذا السبب نجد أنّ مقاومة مظاهر التقدم في السن لم تكن أبدا انشغالا أساسيا، بحيث لن يثير دهشتنا أن نسمع سيدة في الأربعين مثلا تتحدث بصيغة الماضي عن اهتمامها بأناقتها وعنايتها بجمالها “عشنا و لبسنا وتمتعنا و دابا نتسناو حسن الختام”

حسن الختام قد يبدأ قبل وقته القانوني بسنوات و ليس في الأمر زهد في الحياة بقدر ما له علاقة بعودة قيم القبيلة وعودة سلطة الجدات( الحاجات الوقورات) إلى واقعنا الحالي في ظلّ مقاومة كلّ مظاهر العصرنة و التقدم

ومن كلّ هذا التحليل، يظلّ العمر مجرد لحظة على رأي الشاعر .. مهما طالت فهي قصيرة

لطيفة باقا

http://hespress.com

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى