المزيد

مسألة الميراث….إشراقة تطبيق

كان محمد يتألم ويتحسر مما يحدث في مجتمعه من هضم كثير من الناس لحقوق بعضهم بعضا، ومن ضياع جانب من الدين في أسر المسلمين، ويتساءل باستمرار:لماذا لا يجتهد الناس في إقامة الدين في أنفسهم وفي أسرهم قبل أن يطالبوا حكامهم وأنظمتهم في إقامته في دولهم وأنظمتهم؟

فقرر باعتباره بكر أبيه أن يباشر ذلك في أسرته منذ اللحظات الأخيرة من حياة والده، فكان يحرص في كل زيارة في اللحظات الحرجة من وضع والده الصحي، على التذكير بالصبر ومواجهة الأمر برباطة الجأش والتسليم بقدر الله وعدم إتيان شيء من أعمال الجاهلية مثل النياحة وشق الجيوب وغير ذلك، كما ويلمح بالاجتهاد للتخلص من بعض العادات التي لا أصل لها في الشرع مثل القصد إلى الاجتماع في اليوم الثالث من موت الميت أو الذكرى الأربعينية وكذا بناء القبر ونحو ذلك

وما إن نزل أمر الله وقدره، حتى وزع محمد المهام بين إخوانه، فتكلف بعضهم بإجراءات تجهيز الميت من غسل وتكفين، وتكلف آخر بمباشرة تهييء القبر، وتكلف ثالث بالاستعداد لاستقبال المعزين وما يلزم من طعام للأباعد ولمن يدخل الدار، وحرص في ذلك أن لا يمس مال الأيتام، فتقاسم الإخوة القادرون مصاريف الإطعام كل حسب وسعه وجوده، فيسر الله في كامل الإجراءات ولم يأت وقت الظهر الموالي لليلة وفاة والدهم إلا وجثمانه في مسجد الحي للصلاة عليه، ثم التوجه به إلى المقبرة ومواراته التراب، وقد رتب المومنون المحبون للأسرة أمر موعظة المقبرة لتزيد الجو سكينة وعبرة

وفي الليلة الرابعة بعد أن خفت وتيرة المعزين، عقد محمد لقاء تذكيريا حضره جل أفراد الأسرة، تناول فيه ما يتعلق بالحداد وأنه لا يجوز أن يستمر أكثر من ثلاثة أيام إلا ما كان من الزوجات، فيستمر حدادهن أربعة أشهر وعشرا، يتجنبن فيه مظاهر الزينة، ولا يخرجن إلا لحاجة معتبرة ويحرصن على المبيت في بيت الزوجية، ويلتزمن عادة بلادنا في تطبيق تجنب لباس الزينة بارتداء الأبيض من الثياب بخلاف عادة المشرقيات اللواتي يرتدين السواد، وكانت مناسبة للرد على الكثير من تساؤلات الأسرة في هذا المجال والقطع مع العادات التي لا أصل لها في الشرع، وكانت والدة محمد تهيئ الأوراق وتعد نفسها للسفر إلى أحد أبنائها خارج الوطن، فاقتنعت بتأجيل كل ذلك إلى ما بعد الانتهاء من العدة

وبدأ محمد يفكر في كيفية مفاتحة العائلة في أمر تركة والدهم وكيفية تدبير الأمر مع وجود الصغار ووجود أفراد داخل الأسرة وآخرين استقلوا بأنفسهم من زمان غير يسير، وكان همه القطع مع عادات راسخة تعتبر من العيب مطالبة البنت المتزوجة بحقها، حيث يترك الأمر للإخوة فإما يحرموها بالمرة أو يلقوا إليها ببعض  الفتات بحجة أن مال الأسرة لا ينبغي أن ينتقل إلى الأسر الأخرى الغريبة، وكل مطالبة تواجه بفتور في العلاقات وربما بقطع الرحم

وبعد أن قام بحصر ممتلكات والده إلى ليلة وفاته، اغتنم ليلة من ليالي اجتماع العائلة التي تلت الوفاة بقليل، فذكرهم بالترحم على والدهم وبأنه قد انقطع عمله إلا من ثلاث منها ولد صالح يدعو له، ثم تلا قول الله تعالى:” لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا (7)النساء، وركز على قوله تعالى “مما قل منه أو كثر” وقوله سبحانه “نصيبا مفروضا” وبين خطورة قطع ميراث الناس، وأنه من كبائر الذنوب فقد عد ابن القيم رحمه الله في كتابه “إعلام الموقعين” فعل ذلك من كبائر الذنوب، حيث قال ما نصه: ومن الكبائر ترك الصلاة، ثم ذكر أمورا بعدها إلى أن قال:  وقطيعة الرحم والجور في الوصية، وحرمان الوارث حقه من الميراث

وأن الحرمان من الميراث من أكل أموال الناس بالباطل، وأن التركات مما تولى الله سبحانه وتعالى قسمتها بنفسه ولم يكلها إلى نبي مرسل ولا ملك مقرب وختمها بقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ {النساء: 13-14} ونبه إلى الرضا المعتبر في ذلك وهو تمكين الناس من حقوقهم ليكونوا بعد ذلك أحرارا في التصرف أو التنازل أو التصدق، والحذر مما ينزع من الناس بسيف الحياء

ثم استغل محمد الموقف ليطلع العائلة على ما يخصها من أحكام الإرث في نازلتها، وبين أن التركة يبدأ فيها بإخراج مؤونة التجهيز وليس منها ما يكون من إطعام الناس أيام العزاء، ثم إخراج الديون والوصايا فتم الحسم في إخراج ديون والدهم، ثم بين في حالهم تقسيم الباقي على ثلاث زوجات وعشرة أبناء وخمس بنات، فكان الثمن نصيب الزوجات يقتسمنه والباقي للذكر مثل حظ الانثيين

ومادام في الورثة صغار وأيتام اقترح عليهم ترك العقار الذي هو في نفس الآن سكناهم، إلى أن يكبروا ويبلغوا سن الرشد حماية لهم من التشرد والضياع، ثم اتفقوا على تدبير المنافع وبعض الموارد المستمرة كالكراء، حيث حدد نصيب كل واحد ليعرف البنات المتزوجات حقهن، واتفق على ترك الأثاث في ملك الجميع، وتمت كتابة عقد عائلي وقعه كل من يصلح للتوقيع حتى يكون مرجعا عند النسيان أو الاختلاف، وأما أغراض الميت الشخصية فوزعت بحسب القسمة الشرعية وتم الاجتهاد في التعديل والتقريب بين قيمة الأغراض، واعتمدت القرعة بكتابة أسماء جميع الورثة صغارا وكبارا، ثم وضعت كل ورقة مخفية الإسم على كل كومة من الأغراض، وأخذ كل نصيبه، فتنازل بعضهم لبعض وتبادل من يريد التبادل، وكان فرح الصغار أشد قبل الكبار بإشراكهم في الأمر وبحيازتهم لأمور رمزية تذكرهم بوالدهم

فعم الجميع ارتياح كبير، وأحسوا بنعمة الشرع وإقامة الدين في هذا الأمر النازل، وكيف يدفع كثيرا من الشرور والآفات عن التجمع العائلي، ويحصن من التدابر وقطع الرحم، فالمال مال الله قل أو كثر، وموزعه الله، لا يغضب أحد من قسمته، ولو أفسح الناس لشرع الله في مختلف أحوالهم وإداراتهم ومؤسساتهم ومحاكمهم للمسوا رحمات تتنزل عليهم، ولحلت كثير من مشكلاتهم، ولتذوقوا قول ربهم :  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ

د.محمد بولوز

http://hespress.com/writers/46858.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى