المزيد

مثل المال كنبت الربيع

مثل المال كنبت الربيع

ضرب المثل أسلوب نبوي بالغ الأثر، يقرب المعقول في صورة المحسوس، يعزز به الخير، وينفر به من الشر، وهو أسلوب عربي مألوف، لكن من أوتي جوامع الكلم كانت أمثاله أبلغ وأوجز وأنفع، وقد كان يستعمل هذا اللون من الكلام لأغراض كثيرة من تلك الأغراض: التنفير مما يضر بالمسلم وبدينه، كما في الحديث الآتي 

في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب الناس فقال: «لا والله، ما أخشى عليكم، أيها الناس، إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا» فقال رجل: يا رسول الله، أيأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم قال: “كيف قلت؟” قال: قلت: يا رسول الله، أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الخير لا يأتي إلا بخير، أَوَ خير هُوْ، إن كل ما يُنبِت الربيع يقتل حَبَطاً أو يُلِمُّ، إلا آكِلَةَ الخِضَر، أكلت، حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس، ثَلَطَتْ أو بالت، ثم اجْتَرَّت، فعادت فأكلت فمن يأخذ مالا بحقه يبارك له فيه، ومن يأخذ مالا بغير حقه فمثله، كمثل الذي يأكل ولا يشبع 

قول الرجل (يا رسول الله، أيأتي الخير بالشر؟): استفهام عن قول رسول الله -صلى الله ليه وسلم-: «لا والله، ما أخشى عليكم، أيها الناس، إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا» فكأنه قال له: إنما يحصل ذلك لنا من جهة مباحة كغنيمة وغيرها، وذلك خير، وهل يأتي الخير بالشر، فأوضح له النبي صلى الله عليه وسلم بأن الخير الحقيقي لا يأتي إلا بخير، أي لا يترتب عليه إلا خير، ولكن ليست هذه الزهرة بخير؛ لما تؤدي إليه من الفتنة والمنافسة والاشتغال بها عن كمال الإقبال على الآخرة 

ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلين في هذا الحديث، مثلاً للمستكثر من المال المانع له عن وجوه الخير، ومثلاً للمعتدل فيه المنفق له في وجوه الخير

فالمثل الأول: في المسرف المستكثر من الدنيا وفيها عطبه وهلاكه، وأشار إلى ذلك قوله – صلى الله عليه وسلم – «إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطا أو يلم» والحبط: التُّخمة، وقوله «أو يُلِم» أي: يقارب القتل

ومعنى المثل كما قال ابن بطال -ما ملخصه-: أن الماشية يروق لها نبت الربيع فتكثر من أكلها فربما تفتقت سمنًا فهلكت بسبب التخمة أو قاربت الهلاك، فضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المثل للمستكثر من الدنيا الحريص على جمعها من كل وجه لا يقتصر في ذلك على الحلال ولا على قدر الحاجة ولا يصرفه في وجوهه التي أمر الله بها، تروقه زهرتها فتهلكه، فحاله في الحقيقة كحال المبطون المتخوم الذي يكون حتفه وهلاكه فيما استحلاه واستلذه ، وهذا من أبلغ الكلام في التحذير من الدنيا والركون إليها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى