المزيد

تاريخ مدينة تارودانت

تعتبر مدينة تارودانت من المدن المغربية العتيقة التي شاركت عبر مراحل التاريخ في إغناء الرصيد الفكري و الحضاري ببلادنا وبصفة خاصة بمنطقة سوس.

         وتشير بعض المصادر ومن ضمنها المرحوم المختار السوسي إلى أن تارودانت أسست على يد الرومان. لكن الثابت تاريخيا أن الاحتلال الروماني لم يتخط قط جبال الأطلس الكبير وأن وجوده بسهل سوس لم يكن عسكريا أو سياسيا منظما بقدر ما كان وجودا تجاريا محضا، خاصة تجارة زيت الزيتون. كما أن هندسة الفن المعماري الروماني المعروفة بأشكالها الخاصة قد لا توجد إطلاقا بهده المنطقة.

 وما يمكن الركون إليه هو أن تارودانت أنشئت من طرف سكان المنطقة القدامى من قبائل هشتوكة و جزولة المحيطة بها في سهل سوس، و المتفرعة عن التكتل المصمودي الكبير، حيث اتخذوا منها مركزا للتجارة وقاعدة للحكم. وقد أكد هدا الرأي عدة مؤرخين كأبي القاسم الزياني في الترجمانة الكبرى، وأن هدا التأسيس كان قبل دخول الإسلام بقرون بل حتى قبل الاحتلال الروماني للمغرب أما عن مدلول اسم تارودانت فثمة افتراضات متعددة احتفظت بها الرواية الشفوية عبر العصور، وتبنى على

             تعليلات مختلفة. لكنها تبقى مجرد رموز غامضة تحتاج إلى بدل جهود علمية لشرحها.

 إن الافتراض الأول يرد الكلمة إلى أصل بربري بمعنى الكدية وذلك لمجاورتها لكدية سيدي بورجا. أما الافتراض الثاني فيجعل الكلمة مشتقة من”  إدرارن ” جمع درن للأطلس الكبير لوجودها بين أحضان هذه الجبال. وهناك افتراض آخر يقول بأن التسمية آتية من كلمة “تاروادانت ” أي الندبة على الأبناء الضائعين حسبما تحكيه الرواية .

  وقد تداول المؤرخون والأدباء في آثارهم رواية مشهورة وهي أن العرب الفاتحين لسوس عربوا كلمة تارودانت إلى رودانة وشبهوها بالشام على عاداتهم في مناطق أخرى من المغرب، نظرا لما بين طبيعة المنطقتين من تشابه و تقارب. و قالوا عنها رودانة بنت الشام.

  ومجمل القول أن أهمية تارودانت تكمن في موقعها الجغرافي الاستراتيجي ومعطياتها الطبيعية والإنسانية التي خولت لها مهمة الربط بين المغرب وافريقيا منذ الحقب التاريخية المتعاقبة وخلال عصور ما بعد الإسلام، نظرا لوجودها في منطقة فلاحية أساسية وفي طريق قوافل تجارة الذهب الإفريقي وصلة وصل حضارية عريقة في شمال افريقيا. غير أننا لا نكاد نعثر على معالم تلك الفترة نظرا لما أصاب تاريخها من اندثار و ضياع.

 أما بعد الإسلام، فلم تكد طلائع الفتح الإسلامي تصل إلى الجنوب حتى تعززت مكانة تارودانت، وبدأت  تسترجع دورها الفكري والحضاري. فانطلقت منها مواكب الدعوة الإسلامية والثقافة العربية نحو مجاهل إفريقيا. وخلال تلك الفترة لم تكن تارودانت بمعزل عن التطورات السياسية والصراعات المذهبية التي شهدها المغرب آنذاك إلى أن جاءت دولة الأدارسة، فانضوت تحت لواءها كقاعدة تابعة لمركز أغمات حسب تنظيماتهم الإدارية، وكان ذلك سنة 197 هجرية.

 وحينما أنشأ عبد الله بن إدريس مدينة تامدولت قرب “أقا” سنة 213 هجرية، اكتسبت تارودانت نفسا جديدا حيث اشتهرت بتجارة المواد النحاسية و الفضية بالإضافة إلى المواد الفلاحية، وأصبحت تتوسط الطريق التجارية الكبرى الذاهبة من تامدولت الى نفيس قبل أن تؤسس مراكش بحوالي قرن و نصف . وبعد ضعف الدولة الإدريسية كثرت الصراعات المذهبية حول المدينة إلى أن احتلها المرابطون سنة 448 هجرية تحت قيادة عبد الله بن ياسين الجزولي. وقد جعل المرابطون من تارودانت قاعدة عسكرية متقدمة توجه منها الحملات المنظمة ضد قبائل الأطلس الكبير التي وقفت حاجزا دون تقدمهم داخل المغرب. وقد عين يوسف بن تاشفين ابنه “تميم” خليفة له بتارودانت.

 ولما ظهرت حركة الموحدين شرق المدينة ضاعف المرابطون اهتمامهم بها حيث حصنوها بسور قوي و أقاموا حولها عدة منشآت دفاعية منيعة على يد قائدهم العسكري المهندس الأندلسي “عمر الفلاكي” الذي بنى الحصون و أقام الخنادق المائية للحيلولة دون تسرب الموحدين إليها. و ظلت بيد المرابطين إلى أن فتحها عبد المومن بن علي سنة  539 هجرية.

 وفي عهد الموحدين، لم يطرأ أي جديد في حياة تارودانت السياسية والفلاحية والإدارية باستثناء الحياة الاجتماعية التي عرفت بعض التطورات بدخول العناصر الزنجية والأندلسية والتركية التي تفاعلت مع السكان الأصليين تفاعلا ترك بصماته الواضحة على الحياة العامة للمدينة.

 وفي أواخر عهد الموحدين، اعتصم بها “علي بن يدر الزكندري” متمردا على الحكومة المركزية الموحدية بمراكش مستعينا في دلك بعرب بني معقل والهلاليين، فهمت تارودانت وخرجت تحصيناتها، وعاشت فترة من الاضطرابات والحملات العشوائية.

 وحين بايع شيوخ قبائل سوس الأمير السعدي أبا عبد الله القائم بأمر الله بقرية”تدسي” القريبة من تارودانت، دخلت هذه المدينة تحت طاعته وساهمت بحظ وافر في تمويل المجاهدين بالسلاح والغداء ومدتهم أيضا بالرجال ضد المحتل البرتغالي والإسباني.

 وتعتبر فترة السعديين من أزهى فترات تاريخ تارودانت لما أولاها ملوك هذه الدولة من عناية واهتمام وبلغت أوج عظمتها واتساعها في عهد محمد الشيخ الذي حصنها بسور لم يزل يشهد بعظمته. كما جدد مسجدها الأعظم وشيد صومعته سنة 935هجرية، وشجع الناس على الاستقرار بها، فاتسعت أطرافها وحفلت مرافقها وأسواقها بالصناع والتجار وأرباب الحرف. كما ازدهر بها العلم والأدب وجاءها الطلبة للدراسة على يد جماعة من كبار العلماء.

 

وفي المجال الاقتصادي، اشتهرت المنطقة في تلك الفترة بزراعة قصب السكر الذي أولاه  أحمد المنصور عناية خاصة نظرا للإقبال المتزايد على هذه المادة من طرف الدول الأجنبية : أوروبية وأفريقية. فتم بناء المعامل بأحواز تارودانت لصناعة السكر وتصفيته وتبييضه. كما عمل على توسيع المساحة المخصصة لإنتاج القصب. ومازالت آثار هذه المعامل موجودة لحد الآن بتازمورت، إمزميز وأولاد مسعود.

 غير أن تارودانت عرفت حالة من الاضطراب والفوضى بعد وفاة أحمد المنصور واختلاف أبنائه على الحكم من بعده بالإضافة إلى الصراع الذي دار بين هؤلاء و بعض الثائرين كأبي زكرياء الحاحي و أبي حسون السملالي المكنى”بودميعة” وقد نتج عن هذا الصراع أن ضيعت تارودانت مكانتها العلمية والاقتصادية التي اكتسبتها طيلة العصر السعدي إلى أن تمكن المولى الرشيد العلوي من توحيد البلاد ونشر الأمن والاستقرار بها. وقد مكث السعديون بالمنطقة حوالي ثلاثين سنة.

 وخلال العهد العلوي ، عرفت المدينة حياة استقرار واطمئنان مكنتها من المشاركة الفعالة في المجالين الاقتصادي والثقافي بالمغرب خاصة إبان عهد المولى إسماعيل الذي أدرك أهمية هذه المدينة، فعين على التوالي أربعة من أبنائه  عمالا عليها، آخرهم محمد العالم (أوائل القرن الحادي عشر الهجري).

 وقد عرفت تارودانت أثناء إمارته بعثا ثقافيا و عمرانيا هاما بفضل تشجيعه المتواصل للعلم والعلماء والحرفيين ومهرة الصناع على الإقامة بها، الأمر الذي أهل تارودانت لتحتل درجة مرموقة في ميدان الثقافة والعمران.

 ووعيا بهده الخصوصية، واحتراما لهذا التوجه الفكري والحضاري لتارودانت كمصدر إشعاع علمي وروحي، فقد عمل بقية الملوك العلويين على رعاية هذه المدينة وتنمية معاهد العلم والعرفان بها.

 ففي سنة 1959 وضع المغفور له محمد الخامس الحجر الأساس لـمعهد التعليم الأصيل الذي يعتبر من أهم المعاهد العلمية بالمغرب.

 

ونظرا لهذا الدور الإشعاعي الذي قامت وما تزال تقوم به تارودانت، فقد عمد المغفور له الملك الحسن الثاني في إطار سياسة تقريب الإدارة من المواطنين إلى إعادة الاعتبار إليها كقاعدة متميزة لسوس، وذلك عندما أصدر أمره المطاع بجعل هده الحاضرة عاصمة لإقليم تارودانت، وذلك بمقتضى الظهير  الملكي رقم 2-81-854 المؤرخ في 2 صفر 1402 الموافق 18 دجنبر 1981. وأن من شأن هدا القرار، أن يحقق للمدينة وللإقليم تنمية شاملة في جميع المجالات وأن يعمل بالتالي على إيجاد فرص قادرة للدفع بتارودانت قدما إلى الأمام حتى تتمكن من مواصلة دورها الإشعاعي .

 

http://taroudantonline.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى