المزيد

ابدأ بنفسك واحتسب

ابدأ بنفسك واحتسب

ما جعل سعيد بن المسيب يصلي أربعين حولاً في الصف الأول لا يتأخر عنه إلا احتسابه على نفسه، وما نهى الإمام البخاري عن الغيبة منذ علم أنها حرام إلا احتسابه على لسانه، وما خوَّف الإمام الزهري من الكذب وإن أبيح من السماء ونادى منادٍ بحله، إلا احتسابه على قلبه.إنها النفس كالغصن الأخضر المياد، إن عدلتها اعتدلت، وإن تركتها تميل مع رياح الأهواء مالت واعوجَّت

والنفس كالطفل إن تتركه شبَّ على *** حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ 

وخيركم خيركم لنفسه أولاً، فإنقاذها من النار أوجب على المرء، وإنقاذ الآخرين دونها قد يودي بالمنقذ إلى أن تسعر به النار أولاً، وهو يسمع قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الصف: 2-3).ومعيبٌ بالمرء أن يكون كنعامة في بيداء الضياع

ومن المتفق عليه عند العقلاء، ورواه أهل سنن النصح مسنداً بسند الحكمة، أن الغريق لا ينقذ غيره، وأن المريض المُشفي على هلكة لا يداوي أبرأ منه، -ولست أعني أن نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتكالاً على حالنا-لا- وإنما أدعو إلى الخلاص والنجاة، فمن يداوي نفسه جاز له أن يداوي غيره، ومن تمسك بقارب النجاة عليه أن يُمَسِّك غيره، حتماً. لذا فإن على كل محتسب مريد للنصح والتغيير لفلذات كبد الإسلام أن يحتسب على نفسه أولاً، ويلزمها الصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والورع عن الشبهات، ويأخذ بزمام نفسه فيقودها إلى رياض الجنان، ومراتع المتقين، ويزحزحها عن المهاوي وإن استعصت عليه، وحاله

ففي قول الله – تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (المائدة: 105)، إرشادٌ إلى كل نفسٍ فحواه: “اجتهدوا في إصلاحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم، فإنكم إذا صلحتم لا يضركم من ضل عن الصراط المستقيم، ولم يهتد إلى الدين القويم، وإنما يضر نفسه، ولا يدل هذا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يضر العبدَ تركُهما وإهمالُهما، فإنه لا يتم هداه، إلا بالإتيان بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وهذا لا ريب على سبيل الأولوية فدِينُ الله لم يُعْرِض صَفْحاً عن النصح للآخرين، والاكتفاء بإصلاح النفس فحسب، يوشك حينئذ أن يأثم الشاهد للمنكر، والساكت عن الباطل..وإنما في هذا الأسطر قصد الاحتساب على النفس، وترغيبها في الإيمان، وترغيمها على الكف عن العصيان، فمما يبعث الآخرين على القبول، ويدعوهم إلى الاستجابة أن يكون المرء وقَّافا عند حدود الله، منقاداً لأوامر الله، وإلا صاحوا في وجهه بلسان الرجل الواحد

وما ضرَّ يوسف – عليه السلام – حين احتسب على نفسه إذ هوت وغوت امرأة العزيز، وراودته عن نفسه، وهي ذات منصب وجمال، فـ {قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].بل اهتدى ونهاها بما يستطيع من تذكيرها بربه، وتخويفها بخيبة الظالمين، فكان أحد السبعة الذي يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله

إن الاحتساب على النفس هو تطبيق الأوامر الربانية والنواهي السماوية على أول درجاتها؛ إذ أولُ واجب حين سماع الأمر أو النهي من كتاب الله وسنة رسوله العملُ به قبل الدعوة إليه، والتطبيق لفهمه قبل التنظير عليه، حتى لا يصل الحال بالمحتسب أن يسمع ليدعو، ويتقصى الحقائق لينصح الآخرين، فحسب، ليس له حظ أو غرض في نفسه، فتراه إذا سمع ما ينهى عن سوء الجوار -مثلاً-، تفقد جيرانه وتعهدهم بما سمع، ونسي تفقد جواره هو للآخرين، ويكاد يتتبع كلام الآخرين باحثاً عن كذبة أو غيبة لينهى عنها، وينسى حكم التنصت وتتبع الزلات، وربما عاب من لا يسأل أهل العلم، وغفل عن حكم ترك العمل بالعلم.. وهلمَّ جراً، فالأمثلة في هذا الباب كثيرة

والمقصود في هذا المقال إلفات البصائر والأعين النواظر إلى عيوب النفوس، والاشتغال بها قبل النصح للآخرين، فبه تزول المنكرات، وتصفو المجتمعات؛ حيث كلٌّ على نفسه محتسب، هذا يحتسب على نفسه في جواله، وهذا في أمواله، وذاك فيما يصدر من أقواله، وذاك في سائر أحواله، في عينه أن تزيغ إلى هوىً، ويُراهِنُ عند مرور النساء على أن لا يَراهُنَّ، وفي أذنه أن تضل في باطل فتسمع ما يدوي بها من حرام، فيهوي به في مهاوي الإجرام، وفي يده أن تأخذ من محرم، ورجله أن تطأ في غير حلال، وفي ملبسه أن يماط عنه الهدي الظاهر، وفي مأكله ومشربه أن يخبث، وفي معتقده وفكره أن يزيغ أو يتبع ما اشتبه من كلام الذين في قلوبهم مرض، أو يكون كإسفنجة تتشرب كل شبهة، ويحتسب على نفسه في الخلوات كما يفعل في الجلوات، بل أشد، ويقف مع نفسه كل ليلة وقفة محاسبة واحتساب، فيؤنبها تارة، ويوبخها أخرى، ومرات عديدة يحثها على الاستمرار في ما أقدمت عليه من خير ورشْدٍ وهدى، وهو في ذلك كله آخذٌ بزمام نفسه في سبيل الله، إن كان في الساقة كان في الساقة كما وكِل إليه، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة بصيراً مؤمِّناً لمن اتكل عليه

المصدر: موقع الفجر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى